فصل: النَّوع الحَادي والثَّلاثون: الغَريبُ والعَزيزُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


النَّوع التَّاسع والعِشْرُون‏:‏ مَعْرفةُ الإسْنَاد العَالي والنَّازل

الإسْنَاد خصيصةٌ لهذه الأُمَّة‏.‏

النَّوع التاسع والعشرون‏:‏ معرفة الإسناد العالي والنازل‏.‏

الإسْنَاد في أصْلهِ خصيصة فاضلة لهذه الأمَّة ليست لغيرها من الأُمم‏:‏

قال ابن حَزْم‏:‏ نقلُ الثِّقة عن الثِّقة‏,‏ يبلغُ به النَّبي صلى الله عليه وسلم مع الاتِّصال‏,‏ خصَّ الله به المُسلمين دونَ سائر الملل‏,‏ وأمَّا مع الإرسال والإعضال فيُوجد في كثير من اليهود‏,‏ لكن لا يقربون فيه من مُوسى قُربنا من محمَّد صلى الله عليه وسلم، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين مُوسى أكثر من ثلاثين عصرًا‏,‏ وإنَّما يبلغون إلى شمعون ونحوه‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا النَّصَارى فليسَ عندهم من صِفَة هذا النَّقل إلاَّ تحريم الطَّلاق فقط‏,‏ وأمَّا النَّقل بالطَّريق المُشْتملة على كذَّاب‏,‏ أو مجهول العين‏,‏ فكثير في نقل اليهود والنَّصارى‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا أقوال الصَّحَابة والتَّابعين‏,‏ فلا يُمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلاً‏,‏ ولا إلى تابع له‏,‏ ولا يمكن النَّصاري أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص‏.‏

وقال أبو علي الجِيَاني‏:‏ خصَّ الله تعالى هذه الأُمة بثلاثة أشْيَاء لم يُعْطها من قبلها‏:‏ الإسْنَاد‏,‏ والأنْسَاب‏,‏ والإعراب‏.‏

ومن أدلة ذلك‏,‏ ما رواهُ الحاكم وغيره‏,‏ عن مَطَر الورَّاق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ قال‏:‏ إسناد الحديث‏.‏

وسُنَّة بالغةٌ مُؤكَّدةٌ‏,‏ وطلبُ العُلُو فيهِ سُنَّة‏,‏ ولهَذَا اسْتُحبَّت الرِّحلةُ‏.‏

وسُنَّة بالغة مُؤكَّدة قال ابن المُبَارك‏:‏ الإسناد من الدِّين‏,‏ لَوْلا الإسْنَاد‏,‏ لقال من شاء ما شاء‏.‏ أخرجه مُسلم‏.‏

وقال سُفيان بن عُيينة‏:‏ حدَّث الزُّهْري يومًا بحديث‏,‏ فقلت‏:‏ هاته بلا إسناد‏,‏ فقال الزُّهْري‏:‏ أترقى السَّطح بلا سلم‏.‏

وقال الثَّوري‏:‏ الإسناد سلاح المُؤمن‏.‏

وطلب العلو فيه سُنَّة قال أحمد بن حنبل‏:‏ طلب الإسْنَاد العالي سُنَّة عمَّن سلف‏,‏ لأنَّ أصْحَاب عبد الله كانُوا يَرْحلون من الكُوفة إلى المَدِينة‏,‏ فيتعلَّمُون من عمر‏,‏ ويسمعون منهُ‏.‏

وقال محمَّد بن أسْلم الطُّوسي‏:‏ قُرْب الإسْنَاد قُرب- أو قُرْبة- إلى الله‏.‏

ولهذَا اسْتُحبَّت الرِّحْلة كما تقدَّم‏,‏ قال الحاكم‏:‏ ويُحتج له بحديث أنس في الرَّجُل الَّذي أتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أتانا رسولكَ‏,‏ فزعمَ كذا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ رواه مُسلم‏.‏

قال‏:‏ ولو كان طَلب العُلو في الإسْنَاد غير مُسْتحب‏,‏ لأنكرَ عليه سُؤاله لذلك‏,‏ ولأمره بالاقتصَار على ما أخبرهُ الرَّسُول عنه‏.‏

قال‏:‏ وقد رحل في طلب الإسْنَاد غير واحد من الصَّحابة‏,‏ ثمَّ ساق بسنده حديث خُروج أبي أيُّوب إلى عُقبة بن عامر يسأله عن حديث سمعه من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد مِمَّن سمعه من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم غير عُقبة‏,‏ الحديث في ستر المؤمن‏.‏

وقال العَلائي‏:‏ في الاسْتدلال بما ذكرُوه نظر لا يخفى‏.‏

أمَّا حديث ضِمَام فقد اختلف العُلماء فيه‏,‏ هل كان أسلم قبل مجيئه أو لا‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ إنَّه لم يكن أسلم‏,‏ كما اختاره أبو داود‏,‏ فلا ريب في أنَّ هذا ليس طلبًا للعلو‏,‏ بل كان شاكًّا في قول الرَّسُول الَّذي جاءهُ‏,‏ فرحلَ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم حتَّى استثبت الأمر‏,‏ وشاهد من أحْوَاله‏,‏ ما حصل له العلم القَطْعي بصدقه‏,‏ ولهذا قال في كلامه‏:‏ فزعم لنا أنَّك‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏,‏ فإنَّ الزَّعم إنَّما يكون في مظنة الكذب‏.‏

وإن قلنا‏:‏ كان أسلم‏,‏ فلم يكن مجيؤه أيضًا لطلب العلو في إسناد‏,‏ بل ليرتقي من الظَّن إلى اليقين‏,‏ لأنَّ الرَّسول الَّذي أتاهم لم يفد خبره إلاَّ الظَّن‏,‏ ولقاء النَّبي صلى الله عليه وسلم أفاد اليقين‏.‏

قال‏:‏ وكذلك ما يحتج به لهذا القول من رحلة جماعة من الصَّحَابة والتابعين في سماع أحاديث مُعينة إلى البلاد‏,‏ لا دليل فيه أيضًا‏,‏ لجَوَاز أن تكون تلك الأحاديث لم تصل إلى من رحل بسبها من جهة صحيحة‏,‏ وكانت الرحلة لتحصيلها لا للعلو فيها‏.‏

قال‏:‏ نعم لا ريب في اتفاق أئمة الحديث قديمًا وحديثًا على الرحلة إلى من عنده الإسْنَاد العالي‏.‏

وهو أقْسَامٌ‏:‏ أجلُّهَا‏:‏ القُرْب من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بإسْنَاد صحيحٍ نَظيفٍ‏.‏

وهو أي العلو أقسام خمسة‏:‏

أجلها القُرب من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من حيث العدد بإسناد صحيح نظيف بخلاف ما إذا كان مع ضعف فلا التفات إلى هذا العلو‏,‏ لا سيما إن كان فيه بعض الكذَّابين المُتأخِّرين‏,‏ مِمَّن ادَّعى سماعًا من الصَّحابة‏,‏ كابن هُدْبة‏,‏ ودينار‏,‏ وخِرَاش‏,‏ ونُعيم بن سالم‏,‏ ويَعْلى بن الأشْدق‏,‏ وأبي الدُّنيا الأشج‏.‏

قال الذَّهَبي‏:‏ متى رأيت المُحدِّث يفرح بعوالي هؤلاء‏,‏ فاعلم أنَّه عامي بعد‏.‏

وأعلى ما يقع لنا ولأضرابنا في هذا الزَّمان من الأحاديث الصِّحاح المُتصلة بالسَّماع ما بيننا وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه اثنا عشر رَجُلاً‏,‏ وبالإجازة في الطَّريق أحد عشر‏,‏ وذلك كثير‏,‏ وبضعف يسير غير واه عشرة‏,‏ ولم يقع لنا بذلك إلاَّ أحاديث قليلة جدا في «معجم الطَّبراني الصَّغير»‏.‏

أخبرني مسند الدُّنيا أبو عبد الله محمَّد بن مقبل الحلبي إجازة مُكاتبة منه‏,‏ في رجب سَنَة ثمان مئة وتسعة وستين‏,‏ عن محمَّد بن إبْرَاهيم بن أبي عُمر المَقْدسي‏,‏ وهو آخر من حدَّث عنه بالإجازة‏,‏ أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن البُخَاري‏,‏ وهو آخر من حدَّث عنه‏,‏ عن أبي القاسم عبد الواحد بن القاسم الصَّيدلاني‏,‏ وهو آخر من حدَّث عنه‏,‏ أخبرتنا أم إبْرَاهيم بنت عبد الله وأبو الفضل الثَّقفي سماعا عليهما‏,‏ قالا‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ريذة‏,‏ أخبرنا أبو القاسم الطَّبراني‏,‏ حدَّثنا عُبيد الله بن رِمْاحس‏,‏ سَنَة مئتين وأربع وسبعين‏,‏ حدَّثنا أبو عَمرو زياد بن طارق‏,‏ وكان قد أتت عليه مئة وعشرون سَنَة‏,‏ قال‏:‏ سمعتُ أبا جرول زهير بن صُرَد الجُشمي يقول‏:‏ لمَّا أسَرَنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين‏,‏ يوم هوازن‏,‏ وذهب يُفرِّق السَّبي والنِّساء‏,‏ فأتيتهُ فأنشأتُ أقول‏:‏ هذا الشِّعر‏:‏

امْننْ عَلينا رَسُول الله من كَرمٍ *** فإنَّك المرء نرجُوهُ وننتظرُ

امْننْ على بَيْضة قد عاقها قدرٌ مُشتَّت شَمْلُها في دهرها غيرُ

يا خَيْر طفل ومولُود ومُنتخب *** في العَالمين إذا ما حصل البشرُ

أبقت لنا الدَّهر هتافا على حزن *** على قُلوبهم الغماء والغمرُ

إن لم تداركهُم نعماءُ تَنْشرُها *** يا أرجحَ النَّاس حلمًا حين يُختبرُ

امْننْ على نِسْوة قد كُنتَ تُرْضَعُها *** إذ فوكَ يملوهُ من مَخْضها الدُّررُ

لا تَجْعلنا كمن شَالت نَعَامتهُ *** واستبقِ منَّا فإنَّا مَعْشر زُهرُ

إنَّا لنشكُر للنَّعمَا إذا كفرت وعندنا بعد هذا اليَوْم مُدَّخرُ

فألبس العَفْو مَنْ قد كنت تُرضَعُهُ *** من أُمِّهاتك إنَّ العفو مُشْتهر

يا خيرَ من مَرَحت كمتُ الجياد بهِ *** عندَ الهِيَاجِ إذا ما استْوَقدَ الشَّررُ

إنَّا نُؤمِّل عفوًا منكَ تُلبسه *** هذي البرية إذ تعفُو وتَنْتصرُ

فاعفُ عفا الله عمَّا أنتَ راهبهُ *** يوم القيامة إذ يُهدى لكَ الظَّفرُ

قال‏:‏ فلمَّا سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا الشِّعر قال‏:‏ «ما كان لي ولبَنِي عبد المُطَّلب فهو لكم»‏.‏ وقالت قُريش‏:‏ ما كان لنا فهو لله ولرَسُوله‏,‏ وقالت الأنصار‏:‏ ما كانَ لنا‏,‏ فهو لله ولرَسُوله‏.‏

هذا حديث حسنٌ غريب من هذا الوجه‏,‏ عُشَاري‏,‏ أخرجه أبو سعيد الأعرابي في «معجمه» عن ابن رماحس‏,‏ وأبو الحسين بن قانع‏,‏ عن عُبيد الله بن علي الخوَّاص‏,‏ عن ابن رماحس‏.‏

وله شاهد من رواية ابن إسْحَاق في «المغازي» قال‏:‏ حدَّثني عَمرو بن شُعيب‏,‏ عن أبيه‏,‏ عن جدِّه قال‏:‏ لمَّا كان يوم حُنين ويوم هَوَازن‏,‏ فذكر القِصَّة‏,‏ وسياقه أتم‏.‏

وقد أخرجه الضياء في «المختارة» من حديث زُهير‏,‏ واستشهد له بحديث عَمرو بن شُعيب‏,‏ فهو عنده على شرط الحسن‏.‏

وأمَّا الذَّهبي فقال في «الميزان»‏:‏ عُبيد الله بن رماحس القيسي الرَّملي‏,‏ كان مُعمِّرًا ما رأيت للمُتقدمين فيه جرحًا‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ رأيت لحديثه هذا عِلَّة قادحة‏,‏ قال ابن عبد البر فيه‏:‏ رواهُ عُبيد الله‏,‏ عن زياد بن طارق‏,‏ عن زياد بن صُرَد بن زُهير‏,‏ عن أبيه‏,‏ عن جدِّه زُهير‏,‏ فعمد عُبيد الله إلى الإسْنَاد فأسقط منه رَجُلين‏.‏

وبه إلى الطَّبراني‏,‏ حدَّثنا جعفر بن حُميد بن عبد الكريم بن فرُّوخ الأنصاري الدمشقي‏,‏ حدَّثني جدي لأمِّي عَمرو بن أبان بن مُفضل المَدَني‏,‏ قال‏:‏ أراني أنس بن مالك الوضُوء أخذ ركوة فوضعها على يَسَاره‏,‏ وصبَّ على يده اليُمنى فغسَلها ثلاثًا‏,‏ ثمَّ أدار الركوة على يده اليُمْنى‏,‏ فتوضَّأ ثلاثًا ثلاثًا‏,‏ ومسحَ برأسه ثلاثًا‏,‏ وأخذ ماء جديدًا لصماخه‏,‏ فقلت له‏:‏ قد مسحت أُذنيك‏,‏ فقال‏:‏ يا غُلام إنَّهما من الرَّأس‏,‏ ليس هُمَا من الوجه‏,‏ ثمَّ قال‏:‏ يا غُلام هل رأيت‏,‏ أو فهمت‏,‏ أو أعيد عليك‏,‏ فقلت‏:‏ قد كفاني‏,‏ قال‏:‏ هكذا رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ‏.‏

قال الذَّهَبي في «الميزان»‏:‏ انفرد به الطَّبراني عن جعفر‏,‏ وعَمرو بن أبان لا يُدري من هو‏.‏ قال‏:‏ والحديث ثُمَاني له على ضعفه‏.‏

الثَّاني‏:‏ القُرْبُ من إمَام من أئمَّةِ الحديث وإن كَثُر بُعدَهُ العَدَد إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثَّالث‏:‏ العُلوُّ بالنِّسبة إلى رِوَاية أحد الكُتب الخَمْسة أو غَيْرها من المُعْتمدةِ‏,‏ وهو ما كَثُرَ اعتناءُ المُتأخِّرين به‏,‏ من المُوافقة‏,‏ والإبْدَال والمُسَاواة‏,‏ والمُصَافحة‏,‏ فالمُوافقة أن يَقَع لكَ حديثٌ عن شيخ مُسلم من غير جِهَتهِ بعددٍ أقلَّ من عددك إذا رويتهُ عن مُسْلم عنه‏,‏ والبَدَلُ أن يَقَعَ هذا العُلو عن مثل شيخ مُسْلم‏.‏

الثَّاني‏:‏ القُرْب من إمام من أئمة الحديث كالأعمش‏,‏ وهُشَيم‏,‏ وابن جُريج‏,‏ والأوزاعي‏,‏ ومالك‏,‏ وشُعبة‏,‏ وغيرهم مع الصحَّة أيضًا وإن كَثُر بُعدهُ العدد إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثَّالث‏:‏ العُلو المُقيد بالنِّسبة إلى رواية أحد الكُتب الخمسة أو غيرها من الكُتب المُعتمدة وسمَّاه ابن دقيق العيد‏:‏ علو التنزيل‏.‏

وليسَ بعلُو مُطْلق‏,‏ إذ الرَّاوي لو رَوَى الحديث من طريق كِتَاب منها‏,‏ وقع أنزل ممَّا لو رواه من غير طريقها‏,‏ وقد يَكُون عاليًا مُطْلقًا أيضًا‏.‏

وهو ما كَثُر اعتناء المُتأخِّرين به من المُوَافقة‏,‏ والإبْدَال‏,‏ والمُسَاواة‏,‏ والمُصَافحة‏.‏

فالمُوَافقة أن يقع لك حديث عن شيخ مسلم مثلاً من غير جهته‏,‏ بعدد أقلَّ من عددك إذا رويته بإسنادك عن مُسْلم عنه‏.‏

والبدل أن يقع هذا العلو عن شيخ غير شيخ مسلم‏,‏ وهو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث‏.‏

وقد يُسَمَّى هذا مُوافقة بالنِّسبة إلى شَيْخ شَيْخ مُسْلم‏,‏ والمُسَاواة في أعْصارنا‏:‏ قِلَّة عدد إسْنَادك إلى الصَّحابي‏,‏ أو مَنْ قَاربهُ بحيث يقع بينكَ وبين صحابي مثلاً من العدد مِثْل ما وقعَ بين مُسْلم وبينه‏.‏

وقد يُسمَّى هذا موافقة بالنسبة إلى شيخ شيخ مُسْلم فهو مُوافقة مُقيدة‏.‏

وقد تُطْلق المُوافقة والبَدَل مع عدم العُلو‏,‏ بل ومع النُّزول أيضًا‏,‏ كما وقع في كلام الذَّهَبي وغيره‏.‏

وقال ابن الصَّلاح‏:‏ هو مُوافقة وبدل‏,‏ ولكن لا يُطْلق عليه ذلك لعدم الالْتفات إليه‏.‏

تنبيه‏:‏

لَمْ أقف على تَصْريح بأنَّه هل يُشْترط استواء الإسْنَاد بُعد الشَّيْخ المُجتمع فيه أو لا‏؟‏

وقد وقع لي في الإملاء حديث أمْلَيتهُ من طريق التِّرمذي‏,‏ عن قُتيبة‏,‏ عن عبد العزيز الدَّرَاوَرْدي‏,‏ عن سُهيل بن أبي صالح‏,‏ عن أبيه‏,‏ عن أبي هُريرة مرفوعًا‏:‏ «لا تجعلُوا بيوتكُم مَقَابر‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

وقد أخرجه مسلم عن قُتيبة‏,‏ عن يعقوب القَارئ‏,‏ عن سهيل‏.‏

فقتيبة له فيه شَيْخَان عن سهيل‏,‏ فوقع في «صحيح» مسلم عن أحدهما‏,‏ وفي التِّرمذي عن الآخر‏,‏ فهل يُسمَّى هذا مُوافقة لاجتماعنا معه في قتيبة‏,‏ أو بدلاً للتخالف في شيخه‏,‏ والاجتماع في سُهيل أو لا‏,‏ ولا يكون واسطة بين الموافقة والبدل احتمالات‏,‏ أقربها عندي الثَّالث‏.‏

والمُسَاواة في أعْصَارنا قِلَّة عدد إسنادك إلى الصَّحابي‏,‏ أو مَنْ قَاربهُ‏,‏ بحيث يقع بينك وبين صحابي مثلاً من العدد‏,‏ مثل ما وقع بين مسلم وبينه‏.‏

وهذا كان يُوجد قديمًا‏,‏ وأمَّا الآن فلا يُوجد في حديث بعينه‏,‏ بل يُوجد مطلق العدد كما قال العِرَاقي‏.‏

فإنَّه تقدَّم أنَّ بيني وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم عشرة أنْفُس في ثلاثة أحاديث‏,‏ وقد وقع للنَّسائي حديث بينهُ وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه عشرة أنْفُس‏,‏ وذلك مُساواة لنا‏.‏

وهو ما رواه في كتاب الصَّلاة قال‏:‏ أخبرنا محمَّد بن بَشَّار‏,‏ أخبرنا عبد الرَّحمن‏,‏ أخبرنا زائدة‏,‏ عن منصور‏,‏ عن هلال‏,‏ عن الرَّبيع بن خُثَيم‏,‏ عن عَمرو بن مَيْمون‏,‏ عن ابن أبي ليلى‏,‏ عن امْرأة‏,‏ عن أبي أيُّوب‏,‏ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ « ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ تَعْدلُ ثُلث القُرآن»‏.‏

قال النَّسائي‏:‏ ما أعلم في الحديث إسْنَادًا أطْول من هذا‏.‏

وفيه ستة من التَّابعين أوَّلهم منصور‏.‏

وقد رواه التِّرمذي عن قُتيبة ومحمَّد بن بَشَّار‏,‏ قالا‏:‏ حدَّثنا ابن مهدي‏,‏ حدَّثنا زائدة به‏,‏ وقال‏:‏ حسنٌ‏.‏

والمرأة هي امرأة أبي أيُّوب‏,‏ وهو عُشَاري للتِّرمذي أيضًا‏.‏

والمُصَافحة‏:‏ أنْ تَقْع هذه المُسَاواة لشيخكَ‏,‏ فيَكُون لكَ مُصَافحة‏,‏ كأنَّك صَافحتَ مُسْلمًا‏,‏ فأخذتهُ عنهُ‏,‏ فإن كَانت المُسَاواة لشَيْخ شَيْخكَ‏,‏ كانت المُصَافحة لشيخكَ‏,‏ وإن كانت المُسَاواة لشَيْخِ شيخ شيخكَ‏,‏ فالمُصَافحة لشَيْخ شيخكَ‏,‏ وهذا العُلو تابعٌ لِنُزولٍ‏,‏ فَلَوْلا نُزول مُسْلم وشبهه‏,‏ لَمْ تَعْلُ أنتَ‏.‏

والمُصَافحة أن تقع هذه المُسَاواة لشيخكَ‏,‏ فيَكُون لكَ مُصافحة‏,‏ كأنك صافحت مُسلما فأخذته عنه

فإن كانت المُسَاواة لشيخ شيخكَ‏,‏ كانت المُصَافحة لشيخكَ‏,‏ وإن كانت المُساواة لشيخ شيخ شيخكَ‏,‏ فالمُصَافحة لشيخ شيخكَ‏.‏

وهذا العُلو تابع لنُزولٍ غالبًا فلولا نُزول مسلم وشبهه‏,‏ لم تعلُ أنت وقد يَكُون مع عُلوه أيضًا فيَكُون عاليًا مُطْلق‏.‏

الرَّابعُ‏:‏ العُلو بتقدُّم وفَاةِ الرَّاوي‏,‏ فمَا أرْويهِ عن ثَلاثةٍ عن البَيْهقي عن الحَاكم‏,‏ أعْلَى مِمَّا أرْويهِ عن ثَلاثةٍ عن أبي بَكْر بن خَلَف عن الحَاكم‏,‏ لتَقَدُّم وفَاة البَيْهقي عن ابن خَلَفٍ‏.‏

وأمَّا عُلوَّه بتقدُّم وفَاةِ شَيْخكَ‏,‏ فحدَّهُ الحافظ ابن جوصَى بمُضيِّ خمسين سنةً من وفَاةِ الشَّيْخ‏,‏ وابن مَنْده بثلاثين‏.‏

الرَّابع‏:‏ العُلو بتقدُّم وفاة الرَّاوي وإن تَسَاويا في العدد‏.‏

قال المُصنِّف‏:‏ فما أرويه عن ثلاثة‏,‏ عن البَيْهقي عن الحاكم‏,‏ أعلى مِمَّا أرويه‏,‏ عن ثلاثة عن أبي بكر بن خلف عن الحاكم‏,‏ لتقدُّم وفاة البَيْهقي عن ابن خلف‏.‏

وكذلك من سمع «مسند» أحمد على الحلاوي عن أبي العبَّاس الحلبي عن النجيب‏,‏ أعلى مِمَّن سمعهُ على الجمال الكِنَاني عن العرضي عن زينب بنت مَكِّي‏,‏ لتقدُّم وفاة الثلاثة الأولين على الثلاثة الآخرين‏.‏

وأمَّا عُلوه بتقدُّم وفاة شيخك لا مع التفات لأمر آخر‏,‏ أو شيخ آخر فحدَّه الحافظ أحمد بن عُمير ابن جوصي الدِّمشقي بمُضي خمسين سَنَة من تاريخ وفاة الشَّيْخ و حدَّه أبو عبد الله بن مَنْده بثلاثين تمضي من موته‏.‏

وليس يقع في تلك المُدَّة أعلى من ذلك‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهو أوسع‏.‏

الخَامسُ‏:‏ العُلوُّ بتقدُّم السَّماع‏,‏ ويَدْخُل كثيرٌ منهُ فيمَا قبلهُ‏,‏ ويَمْتازُ بأنْ يَسْمع شَخْصان من شَيْخ‏,‏ وسَمَاع أحَدَهما مُنذ سِتِّين سنةً مثلاً‏,‏ والآخَرُ من أرْبَعين‏,‏ وتَسَاوَى العَدَد إليهمَا‏,‏ فالأوَّل أعْلَى‏.‏

الخامس‏:‏ العُلو بتقدُّم السَّماع من الشَّيْخ‏,‏ فمن سمع منه متقدمًا‏,‏ كان أعلى مِمَّن سمع منه بعدهُ‏.‏

ويدخل كثير منه فيما قبله‏,‏ ويمتاز عنه بأن يسمع شخصان من شيخ‏,‏ وسماع أحدهما منذ ستين سَنَة مثلاً‏,‏ والآخر من أربعين سَنَة وتَسَاوي العدد إليهما‏,‏ فالأوَّل أعلى من الثَّاني‏.‏

ويتأكد ذلك في حقِّ من اختلط شيخه أو خرف‏,‏ وربَّما كان المتأخِّر أرجح‏,‏ بأن يَكُون تحديثه الأوَّل قبل أن يبلغ درجة الإتْقَان والضَّبط‏,‏ ثمَّ حصل له ذلك بعد‏,‏ إلاَّ أنَّ هذا عُلو مَعْنوي‏,‏ كما سيأتي‏.‏

تنبيه‏:‏

جعل ابن طاهر وابن دقيق العيد هذا والَّذي قبله قسمًا واحدًا‏,‏ وزاد العُلو إلى صاحبي «الصَّحيحين» ومُصنِّفي الكُتب المشهورة‏.‏

وجعلهُ ابن طاهر اسمين‏:‏

أحدهما‏:‏ العُلو إلى الشَّيخين وأبي داود وأبي حاتم ونحوهم‏.‏

والآخر‏:‏ العُلو إلى كُتب مُصنَّفة لأقوام‏,‏ كابن أبي الدُّنيا والخَطَّابي‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ واعلم أنَّ كُل حديث عزَّ على المُحدِّث‏,‏ ولم يجده غالبًا‏,‏ ولا بُدَّ له من إيراده‏,‏ فمن أي وجه أورده‏,‏ فهو عال بعزَّته‏,‏ ومثَّل ذلك بأنَّ البُخَاري روى عن أماثل أصْحَاب مالك‏,‏ ثمَّ روى حديثًا لأبي إسْحَاق الفَزَاري عن مالك لمعنى فيه‏,‏ فكَان فيه بينهُ وبين مالك ثلاثة رِجَال‏.‏

نكتة‏:‏

وقع لنَا حديث اجتمعَ فيه أقْسَام العُلو‏:‏

أخْبَرتني أُم الفضل بنت محمَّد المَقْدسي‏,‏ بقراءتي عليها في ربيع الآخر سَنَة سبعين وثمان مئة‏,‏ أخبرنا أبو إسْحَاق التَّنوخي سَمَاعًا‏,‏ وكانت وفاتهُ سَنَة ثَمَان مئة‏,‏ عن إسماعيل بن يوسف القيسي وأبي روح بن عبد الرَّحمن المَقْدسي‏,‏ قالا‏:‏ أخبرنا أبو المُنجي بن اللَّيثي قال‏:‏ الأوَّل سَنَة ثلاث وستين وست مئة‏,‏ أخبرنا أبو الوَقْت السِّجْزي في شعبان سَنَة اثنين وخمسين وخمس مئة‏,‏ أخبرنا أبو العاصم الفُضَيل بن يحيى الأنْصَاري في ذي الحجة سَنَة تسع وأربعين وأربع مئة‏,‏ أخبرنا أبو محمَّد بن أبي شُريح‏,‏ وكانت وفاتهُ في صفر سَنَة اثنين وتسعين وثلاث مئة‏,‏ أخبرنا أبو عبد الله بن محمَّد المُنيفي يعني أبا القاسم البَغَوي‏,‏ وكانت وفاتهُ سَنَة سبع عشرة وثلاث مئة‏,‏ حدثنا علي بن الجعد الجَوَاهرى‏,‏ وكانت وفاتهُ في رجب سَنَة ثلاثين ومئتين‏,‏ أخبرنا شُعبة بن الحَجَّاج ومات سَنَة ستين ومئة‏,‏ وعلى بن الجعد آخر من روى عنه‏,‏ عن مُحمَّد بن المُنْكدر‏,‏ سمعتُ جابر بن عبد الله يقول‏:‏ استأذنتُ على النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «مَنْ هَذَا‏؟‏» فقلت‏:‏ أنا‏,‏ فقال‏:‏ «أنا أنا»‏.‏ كأنَّه كرهه‏.‏

هذا الحديث اجتمعَ فيه أنواع العُلو‏,‏ أمَّا العدد‏,‏ فبيني وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه اثنا عشر رَجُلا ثقات بالسَّماع المُتَّصل‏,‏ وهو أعلى ما يقع من ذلك‏.‏

وأمَّا بالنِّسبة إلى بعض الأئمة‏,‏ فلأنَّ شُعبة بن الحجَّاج من كبار الأئمة الَّذين روى الأئمة السِّتة عن أصحابهم‏,‏ ولم يقع حديثه بعلو إلاَّ في كتاب البُخَاري وأبي داود‏,‏ وبينهما وبينه في كثير من الأحاديث رجل واحد‏.‏

وأمَّا بقية الجماعة فأقل ما بينهم وبينه اثْنَان‏,‏ وهو مُتقدِّم الوَفَاة‏,‏ وبيني وبينهُ تسعةُ أنْفُس‏,‏ وهو نهاية العُلو‏.‏

وأمَّا عُلوه بالنِّسبة إلى أئمة الكُتب‏,‏ فقد أخرجهُ البُخَاري عن أبي الوليد عن شُعبة‏,‏ فوقعَ لي بدلاً عَاليًا‏,‏ كأنِّي سمعتهُ من أبي الحسن بن أبي المجد‏,‏ وأبي إسْحَاق التَّنوخي وغيرهما من شُيوخ شُيوخنَا في الصَّحيح‏.‏

ورواه مسلم عن محمَّد بن عبد الله بن نُمَير‏,‏ عن عبد الله بن إدريس‏.‏ وعن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شَيْبة‏,‏ كلاهما عن وكيع‏.‏ وعن إسْحَاق بن إبْرَاهيم‏,‏ عن النَّضر بن شُميل وأبي عَامر العَقَدي‏.‏ وعن مُحمَّد بن مُثنى‏,‏ عن وهب بن جرير‏.‏ وعن عبد الرَّحمن بن بِشْر بن الحكم‏,‏ عن بهز بن أسد‏.‏

وأبو داود‏:‏ عن مُسدَّد‏,‏ عن بِشْر بن المُفضَّل

والتِّرمذي‏:‏ عن سُويد بن نَصْر‏,‏ عن ابن المُبَارك‏.‏

والنَّسائي‏:‏ عن حُميد بن مَسْعدة‏,‏ عن بِشْر بن المُفضَّل‏.‏

وابن ماجه‏:‏ عن ابن أبي شَيْبة‏,‏ عن وكيع‏.‏

كلهم عن شُعبة‏.‏

فوقع لي بدلاً لهم عاليًا بثلاث درجات‏,‏ فكأنِّي سمعتهُ من أبي إسْحَاق بن مُضر راوي صحيح مسلم‏,‏ وكانت وفاته في رجب سَنَة أربع وستين وست مئة‏,‏ ومنه سمع النووي «صحيح» مسلم‏.‏

ومن أبي الحسن بن المُقيَّر راوي «سُنن» أبي داود‏,‏ وكانت وفاته سَنَة ثلاث وأربعين وست مئة‏.‏

ومن أبي الحسن بن البُخَاري راوي التِّرمذي‏,‏ وكانت وفاته سَنَة تسعين وست مئة‏.‏

ومن إسماعيل بن أحمد العِرَاقي راوي النَّسائي‏,‏ وكانت وفاته سَنَة تسعين وست مئة‏.‏

ومن أبي السَّعادات راوي «سنن» ابن ماجه‏,‏ وكانت وفاته سَنَة اثنتين وست مئة‏.‏

وأمَّا النُّزُول فضدُّ العُلو‏,‏ فهو خَمْسةُ أقْسَامٍ تعرفُ من ضِدِّها‏,‏ وهو مَفْضُول مَرْغُوبٌ عنهُ على الصَّواب‏,‏ وهو قول الجمهور‏,‏ وفضَّلهُ بعضهُم على العُلُو‏,‏ فإن تميَّز بفَائدة‏,‏ فهو مُخْتار‏.‏

وأمَّا النُّزول‏,‏ فضد العُلو‏,‏ فهو خمسة أقْسَام أيضًا تعرف من ضدها فَكُل قِسْم من أقْسَام العُلو‏,‏ ضدهُ قِسْم من أقْسَام النُّزول وهو مَفْضُول مَرْغُوب عنهُ على الصَّواب‏,‏ وهو قول الجمهُور‏.‏

قال ابن المَدِيني‏:‏ النُّزُول شُؤم‏.‏

وقال ابن مَعِين‏:‏ الإسْنَاد النَّازل قُرحة في الوجه‏.‏

وفضَّله بعضهم على العلو حكَاهُ ابن خلاَّد عن بعض أهل النَّظر‏,‏ لأنَّ الإسْنَاد كُلَّما زاد عدده‏,‏ زاد الاجتهاد فيه‏,‏ فيَزْداد الثَّواب فيه‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهذا مَذْهب ضعيف الحُجَّة‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ لأنَّ كَثْرة المشقة ليست مَطْلوبة لنفسها‏,‏ ومراعاة المعنى المقصود من الرِّواية‏,‏ وهو الصحَّة أولى‏.‏

فإن تميَّز الإسْنَاد النَّازل بفائدة كزيادة الثِّقة في رِجَاله على العالي‏,‏ أو كونهم أحفظ‏,‏ أو أفقه‏,‏ أو كونه مُتَّصلاً بالسَّماع‏,‏ وفي العَالي حُضُور‏,‏ أو إجَازة‏,‏ أو مُنَاولة‏,‏ أو تَسَاهُل بعض رُوَاته في الحمل ونحو ذلك فهو مُخْتار‏.‏

قال وكيع لأصْحَابه‏:‏ الأعمش أحب إليكُم عن وائل عن عبد الله‏,‏ أم سُفيان عن منصُور عن إبْرَاهيم عن عَلْقمة عن عبد الله‏؟‏ فقالوا‏:‏ الأعمش عن أبي وائل أقرب‏.‏ فقال‏:‏ الأعمش شيخ‏,‏ وأبو وائل شيخ‏,‏ وسُفيان عن منصور عن إبْرَاهيم عن علقمة‏,‏ فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه‏.‏

قال ابن المُبَارك‏:‏ ليسَ جَوْدة الحديث قُربُ الإسْنَاد‏,‏ بل جَوْدة الحديث صحَّة الرِّجَال‏.‏

وقال السَّلفي‏:‏ الأصل الأخذ عن العُلماء‏,‏ فَنُزولهم أوْلَى من العُلو عن الجهلة‏,‏ على مذهب المُحقِّقين من النَّقلة‏,‏ والنازل حينئذ هو العَالي في المعنى عند النَّظر والتَّحقيق‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ليس هذا من قَبيل العُلو المُتعارف إطلاقه بين أهل الحديث‏,‏ وإنَّما هو عُلو من حيث المعنى‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ولابن حبَّان تفصيل حسن‏,‏ وهو أنَّ النَّظر إن كان للسَّند فالشِّيوخ أوْلَى‏,‏ وإن كان للمتن فالفُقهاء‏.‏

النَّوع الثَّلاثُون‏:‏ المَشْهُور من الحديثِ

هو قِسْمَان‏:‏ صحيحٌ وغيرهُ‏,‏ ومَشْهورٌ بين أهْلِ الحديث خاصَّة‏,‏ وبينهُم وبين غَيْرهم‏.‏

النَّوع الثلاثون‏:‏ المشهور من الحديث‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ومعنى الشُّهْرة مفهوم‏,‏ فاكتفى بذلك عن حدِّه‏.‏

وقال البَلْقِيني‏:‏ لم يُذْكر له ضَابطًا‏,‏ وفي كتب الأصُول المشهورة‏:‏ ويُقَال له المُستفيض الَّذي تزيد نقلته على ثلاثة‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ المشهور ماله طُرق محصورة بأكثر من اثنين‏,‏ ولم يبلغ حد التَّواتر‏,‏ سُمِّي بذلك لوضُوحه‏,‏ وسمَّاه جماعة من الفُقهاء المُسْتفيض لانْتشَاره‏,‏ من فاض الماء يفيضُ فيضًا‏.‏

ومنهم من غَايرَ بينهما‏:‏ بأنَّ المُستفيض يَكُون في ابْتدائه وانْتهَائه سواء‏,‏ والمشهُور أعم من ذلك‏,‏ ومنهم من عكس‏.‏

هو قِسْمان‏:‏ صحيح وغيره أي‏:‏ حسنٌ وضعيف ومشهور بين أهل الحديث خاصة و مشهور بينهم وبين غيرهم من العُلماء والعامة‏.‏

وقد يُراد به ما اشْتُهر على الألسنة‏,‏ وهذا يُطْلق على مالهُ إسْنَاد واحد فصاعدًا‏,‏ بل ما لا يُوجد له إسْنَاد أصلا‏.‏

وقد صنَّف في هذا القِسْم الزَّركشي‏:‏ «التذكرة في الأحاديث المشتهرة» وألفتُ فيه كتابًا مُرتبًا على حروف المعجم‏,‏ استدركت فيه ما فاته الجم الغفير‏.‏

مثال المَشْهُور على الاصْطلاح وهو صحيح‏,‏ حديث‏:‏ «إنَّ الله لا يقبض العِلْم انتزاعًا ينتزعهُ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وحديث‏:‏ «مَنْ أتَى الجُمعة فليَغْتسل‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

ومثَّلهُ الحاكم وابن الصَّلاح بحديث‏:‏ «إنَّما الأعْمَال بالنيَّات‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

فاعتُرض بأنَّ الشُّهرة إنَّما طَرَأت لهُ من عند يحيى بن سعيد‏,‏ وأوَّل الإسْنَاد فرد كما تقدَّم‏.‏

ومثالهُ وهو حسن‏,‏ حديث‏:‏ «طلبُ العِلْم فَرِيضة على كلِّ مُسْلم»‏.‏ فقد قال المِزِّي‏:‏ إنَّ له طُرقًا يرتقي بها إلى رُتْبة الحسن‏.‏

ومثاله وهو ضعيف‏:‏ «الأُذَنان من الرَّأس»‏.‏ مثَّل به الحاكم‏.‏

ومثال المشهور عندَ أهل الحديث خاصَّة‏:‏ حديث أنس أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قنتَ شَهْرًا بعد الرُّكوع يدعُو على رِعْل وذَكْوان‏.‏ أخرجه الشَّيخان من رِوَاية سُليمان التَّيمي عن أبي مِجْلز عن أنَسٍ‏.‏

وقد رواه عن أنس غير أبي مِجْلز‏,‏ وعن أبي مجلز غير سُليمان‏,‏ وعن سليمان جماعة‏,‏ وهو مشهور بين أهل الحديث‏,‏ وقد يستغربه غيرهم‏,‏ لأنَّ الغالب على رواية التيمي عن أنس‏,‏ كونها بلا واسطة‏.‏

ومثال المشهور عند أهل الحديث والعُلماء والعَوَام‏:‏ «المُسْلم من سَلمَ المُسْلمُون من لِسَانهِ ويده»‏.‏

ومثال المَشْهُور عند الفُقهاء‏:‏

«أبغضُ الحَلال عندَ الله الطَّلاق»‏.‏ صحَّحهُ الحاكم‏.‏

«من سُئل عن عِلْمٍ فتكتمهُ‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏,‏ حسَّنه التِّرمذي‏.‏

«لا غَيْبة لِفَاسق»‏.‏ حسَّنهُ بعض الحُفَّاظ‏,‏ وضعَّفه البَيْهقي وغيره‏.‏

«لا صَلاة لِجَار المَسْجد إلاَّ في المَسْجد»‏.‏ ضعَّفهُ الحُفَّاظ‏.‏

«اسْتَاكوا عَرْضًا‏,‏ وادَّهنُوا غِبًّا‏,‏ واكْتحلُوا وترًا»‏.‏ قال ابن الصَّلاح‏:‏ بحثتُ عنه فلم أجد له أصلاً‏,‏ ولا ذكرًا في شيء من كُتب الحديث‏.‏

ومثال المشهُور عند الأُصوليين‏:‏ «رُفع عن أُمَّتي الخطأ والنِّسْيان‏,‏ وما اسْتُكرهُوا عليه»‏.‏ صحَّحه ابن حبَّان والحاكم بلفظ‏:‏ «إنَّ الله وضعَ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

ومثال المَشْهُور عند النُّحاة‏:‏ «نِعْم العَبْد صُهيب‏,‏ لو لم يخف الله لم يَعْصه»‏.‏ قال العِرَاقي وغيره‏:‏ لا أصل له‏,‏ ولا يوجد بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث‏.‏

ومثال المَشْهور بين العَامة‏:‏

«من دلَّ على خَيْرٍ فلهُ مثل أجْر فَاعله»‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏

«مُدَاراة النَّاس صَدَقة»‏.‏ صحَّحه ابن حبَّان‏.‏

«البَرَكة مع أكَابركُم»‏.‏ صحَّحه ابن حبَّان والحَاكم‏.‏

«ليسَ الخبر كالمُعاينة»‏.‏ صحَّحاه أيضًا‏.‏

«المُسْتشار مُؤتمن»‏.‏ حسَّنه التِّرمذي‏.‏

«العَجَلة من الشَّيطان»‏.‏ حسَّنه التِّرمذي أيضًا‏.‏

«اختلاف أُمَّتي رحمة»‏.‏

«نيَّةُ المُؤمن خيرٌ من عملهِ»‏.‏

«مَنْ بُوركَ لهُ في شيء فليَلْزمه»‏.‏

«الخَيْرُ عادة»‏.‏

«عَرِّفُوا ولا تُعنِّفوا»‏.‏

«جُبلت القُلوب على حبِّ من أحسنَ إليها»‏.‏

«أُمرنَا أن نُكلِّم النَّاس على قَدْر عُقولهم»‏.‏

وكُلها ضعيفة‏.‏

«مَنْ عرفَ نفسه‏,‏ فقد عرفَ ربه»‏.‏

«كُنتُ كنزًا لا أعرف»‏.‏

«البَاذنجَان لِمَا أُكلَ لهُ»‏.‏

«يومُ صومكُم‏,‏ يوم نَحْركُم»‏.‏

«من بَشَرني بآذار‏,‏ بَشَّرتهُ بالجنَّة»‏.‏

وكلها باطلة لا أصلَ لهَا‏,‏ وكتابنا الَّذي أشرنَا إليه كافلٌ ببيان هذا النَّوع من الأحاديث والآثار والموقوفات بيانًا شافيًا ولله الحمد‏.‏

ومنهُ المُتواترُ المَعْرُوف في الفِقهِ وأُصُوله‏,‏ ولا يَذْكُره المُحدِّثُون‏,‏ وهو قَليلٌ لا يَكَادُ يُوجد في رِوَاياتهم‏,‏ وهو ما نَقلهُ من يَحْصلُ العِلْم بِصْدقهم ضَرُورةً عن مثلهم من أوَّله إلى آخرهِ‏.‏

ومنه أي من المشهور المُتواتر المعرُوف في الفقه وأُصُوله‏,‏ ولا يذكره المحدِّثُون باسمه الخاص المُشْعر بمعناه الخاص‏,‏ وإن وقعَ في كلامُ الخَطِيب‏,‏ ففي كلامه ما يُشْعر بأنَّه اتَّبع فيه غير أهل الحديث‏.‏ قالهُ ابن الصَّلاح‏.‏

قيل‏:‏ وقد ذكرهُ الحاكم وابن عبد البر وابن حَزْم‏.‏

وأجابَ العِرَاقي‏:‏ بأنَّهم لم يذكرُوه باسمهِ المُشْعر بمعناه‏,‏ بل وقعَ في كلامهم تواتر عنه صلى الله عليه وسلم كذا‏,‏ وإن الحديث الفُلاني مُتواتر‏.‏

وهو قليلٌ‏,‏ لا يكاد يُوجد في رِوَاياتهم وهو ما نقلهُ من يحصل العلم بصدقهم ضرورة بأن يَكُونُوا جمعًا لا يُمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أوَّله أي الإسْنَاد إلى آخره ولذلكَ يجب العمل به من غير بَحْث عن رِجَاله‏,‏ ولا يعتبر فيه عدد معين في الأصح‏.‏

قال القاضي الباقلاني‏:‏ ولا يكفي الأربعة‏,‏ وما فوقها صالح‏,‏ وتوقَّف في الخمسة‏.‏

وقال الاصطخري‏:‏ أقله عشرة‏,‏ وهو المُخْتار‏,‏ لأنَّه أوَّل جموع الكَثْرة‏.‏

وقيلَ‏:‏ اثنا عشر عدَّة نُقباء بنى إسرائيل‏.‏ وقيلَ‏:‏ عشرُون‏.‏ وقيلَ‏:‏ أربَعُون‏.‏

وقيلَ‏:‏ سبعون عدَّة أصحاب موسى عليه الصَّلاة والسَّلام‏.‏

وقيلَ‏:‏ ثلاث مئة وبضعة عشر‏,‏ عدَّة أصحاب طالوت وأهل بدر‏,‏ لأنَّ كل ما ذكر من العدد المذكور أفاد العلم‏.‏

وحَدِيث‏:‏ «مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمَّدًا‏,‏ فليتبوَّأ مَقْعدهُ من النَّار»‏.‏ مُتَواترٌ‏.‏

وحديث‏:‏ «مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمَّدًا‏,‏ فليتبوَّأ مَقْعدهُ من النَّار»‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ رواهُ اثنان وسِتُون من الصَّحابة‏.‏

وقال غيره‏:‏ رواهُ أكثر من مئة نفس‏.‏

وفي «شرح مسلم» للمُصنَّف‏:‏ رواه نحو مئتين‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وليسَ في هذا المتن بعينه‏,‏ ولكنَّهُ في مُطْلق الكذب‏,‏ والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيًا‏:‏

العشرة المشهود لهم بالجنَّة‏.‏

أُسامة قا‏.‏

أنس بن مالك خ م‏.‏

أوس بن أوس طب‏.‏

البراء بن عازب طب‏.‏

بريدة عد‏.‏

جابر بن حابس نع‏.‏

جابر بن عبد الله م‏.‏

حُذيفة بن أسد طب‏.‏

حُذيفة بن اليمان طب‏.‏

خالد بن عُرْطفة حم‏.‏

رافع بن خديج طب‏.‏

زيد بن أرقم حم‏.‏

زيد بن ثابت خل‏.‏

السائب بن يزيد طب‏.‏

سعد بن المدحاس خل‏.‏

سَفِينة عد‏.‏

سُليمان بن خالد الخُزَاعي قط‏.‏

سلمان الفَارسي قط‏.‏

سَلَمة بن الأكوع خ‏.‏

صُهيب بن سِنَان طب‏.‏

عبد الله بن أبي أوفى قا‏.‏

عبد الله بن زغب نع‏.‏

ابن الزُّبير قط‏.‏

ابن عبَّاس طب‏.‏

ابن عُمر حم‏.‏

ابن عَمرو خ‏.‏

ابن مَسْعُود ت ن‏.‏

عُتْبة بن غَزْوان طب‏.‏

العُرْس بن عَميرة طب‏.‏

عفَّان بن حبيب ك‏.‏

عُقبة بن عامر حم‏.‏

عمَّار بن ياسر طب‏.‏

عمران بن حُصين بز‏.‏

عَمرو بن حُريث طب‏.‏

عَمرو بن عَبسة طب‏.‏

عَمرو بن عوف طب‏.‏

عَمرو بن مُرَّة الجُهني طب‏.‏

قيس بن سعد بن عُبادة حم‏.‏

كعب بن قُطبة خل‏.‏

مُعاذ بن جبل طب‏.‏

مُعَاوية بن حَيْدة خل‏.‏

مُعَاوية بن أبي سُفْيان حم‏.‏

المغيرة بن شُعْبة نع‏.‏

المنقع التميمي خل‏.‏

نُبيط بن شريط طب‏.‏

واثلة بن الأسْقع عد‏.‏

يزيد بن أسد قط‏.‏

يعلى بن مُرَّة مي‏.‏

أبو أُسامة طب‏.‏

أبو الحمراء طب‏.‏

أبو ذر قط‏.‏

أبو رافع قط‏.‏

أبو رِمْثة قط‏.‏

أبو سعيد الخُدْري حم‏.‏

أبو قَتَادة‏.‏

أبو قِرْصافة عد‏.‏

أبو كَبْشة الأنْمَاري خل‏.‏

أبو موسى الأشعري طب‏.‏

أبو موسى الغافقي حم‏.‏

أبو ميمون الكُرْدي طب‏.‏

أبو هُرَيرة خ م‏.‏

والد أبي العشراء الدَّارمي خل‏.‏

والد أبي مالك الأشجعي بز‏.‏

عائشة قط‏.‏

أم أيمن قط‏.‏

وقد أعلمتُ على كلِّ واحد رمز من أخرج حديثه من الأئمة‏:‏ ‏(‏حم‏)‏ في «مسند» أحمد‏,‏ و‏(‏طب‏)‏ للطَّبراني‏,‏ و‏(‏قط‏)‏ للدَّارقُطْني‏,‏ و‏(‏عد‏)‏ لابن عَدي في «الكامل»‏,‏ و‏(‏بز‏)‏ «لمسند» البزَّار‏,‏ و‏(‏قا‏)‏ لابن قانع في «معجمه»‏,‏ و‏(‏خل‏)‏ للحافظ يوسف بن خليل في كتابه الَّذي جمع فيه طرق هذا الحديث‏,‏ و‏(‏نع‏)‏ لأبي نُعيم‏,‏ و‏(‏مي‏)‏ «لمسند» الدَّارمي و‏(‏ك‏)‏ «لمُسْتدرك» الحاكم و‏(‏ت‏)‏ للتِّرمذي‏,‏ و‏(‏ن‏)‏ للنَّسائي‏,‏ و‏(‏خ م‏)‏ للبُخَاري ومُسلم‏.‏

لا حديث‏:‏ «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنيَّات‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

لا حديث‏:‏ «إنَّما الأعمالُ بالنيَّات» أي‏:‏ ليس بمتواتر كما تقدَّم تحقيقه في نَوْع الشَّاذ‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأوَّل‏:‏ قال شيخ الإسلام‏:‏ ما ادَّعاهُ ابن الصَّلاح من عِزَّة المتواتر‏,‏ وكذا ما ادَّعَاهُ غيره من العدم ممنوع‏,‏ لأنَّ ذلك نشأ عن قِلَّة الاطلاع على كثرة الطُّرق‏,‏ وأحوال الرِّجَال‏,‏ وصفاتهم المُقتضية لإبعاد العادة أن يَتَواطؤوا على الكذب‏,‏ أو يحصل منهم اتِّفاقًا‏.‏

قال‏:‏ ومن أحسن ما يُقرَّر به‏,‏ كون المُتواتر موجودًا وجُود كثرة في الأحاديث‏,‏ أن الكُتب المشهورة المُتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغَربًا‏,‏ المقطوع عندهم بصحَّة نسبتها إلى مُؤلفيها‏,‏ إذا اجتمعت على إخراج حديث‏,‏ وتعدَّدت طُرقه تعدادًا تحيل العادة تواطأهم على الكذب‏,‏ أفاد العلم اليَقيني بصحته إلى قائله‏.‏

قال‏:‏ ومثل ذلك في الكُتب المَشْهُورة كثير‏.‏

قلتُ‏:‏ قد ألَّفتُ في هذا النَّوع كتابًا لم أُسبق إلى مثله‏,‏ سمَّيتهُ «الأزْهَار المتناثرة في الأخبار المُتواترة» مُرتبًا على الأبواب‏,‏ أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرَّجه وطرقه‏.‏

ثمَّ لخصتهُ في جزء لطيف سمَّيتهُ «قَطْف الأزْهَار» اقتصرتُ فيه على عزو كلِّ طريق لمن أخرجها من الأئمة‏,‏ وأوردتُ فيه أحاديث كثيرة‏,‏ منها‏:‏

حديث‏:‏ الحَوْض‏,‏ من رِوَاية نيف وخمسين صحابيًا‏.‏

وحديث‏:‏ المَسْح على الخُفَّين‏,‏ من رواية سبعين صحابيًا‏.‏

وحديث‏:‏ رفع اليدين في الصَّلاة‏,‏ من رواية نحو خمسين‏.‏

وحديث‏:‏ «نضَّر الله امرأ سمع مَقَالتي‏.‏‏.‏‏.‏» من رواية نحو ثلاثين‏.‏

وحديث‏:‏ «نزل القُرآن على سَبْعة أحرف‏.‏‏.‏‏.‏» من رواية سبع وعشرين‏.‏

وحديث‏:‏ «من بَنَى لله مَسْجدًا‏,‏ بَنَى الله له بيتا في الجنَّة» من رواية عشرين‏.‏

وكذا حديث‏:‏ «كُل مُسْكر حرام»‏.‏

وحديث‏:‏ «بَدَأ الإسلام غَرِيبًا»‏.‏

وحديث‏:‏ سُؤال مُنكر ونَكير‏.‏

وحديث‏:‏ «كُلٌّ مُيسَّر لما خُلقَ له»‏.‏

وحديث‏:‏ «المَرءُ مع من أحبَّ»‏.‏

وحديث‏:‏ «إنَّ أحدكُم ليَعْمل بعمل أهل الجنَّة»‏.‏

وحديث‏:‏ «بَشِّر المَشَّّائين في الظُّلَم إلى المَسَاجد بالنُّور التَّام يوم القيامة»‏.‏

كُلها مُتواترة‏,‏ في أحاديث جمة أودعناها كتابنا المذكُور ولله الحمد‏.‏

الثَّاني‏:‏ قد قَسم أهل الأصُول المُتواتر إلى‏:‏ لَفْظي‏,‏ وهو ما تواتر لفظه‏.‏

ومَعْنوي‏,‏ وهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مُختلفة‏,‏ تَشْترك في أمر يتواتر ذلك القدر المُشترك‏.‏

كما إذا نقلَ رَجُل عن حاتم مثلاً أنَّه أعْطَى جملاً‏,‏ وآخر أنَّه أعْطَى فرسًا‏,‏ وآخر أنَّه أعْطَى دينارًا‏,‏ وهلمَّ جرًّا‏,‏ فيتواتر القدر المُشترك بين أخبارهم‏,‏ وهو الإعطاء‏,‏ لأنَّ وجوده مشترك من جميع هذه القضايا‏.‏

قلتُ‏:‏ وذلك أيضًا يتأتى في الحديث‏,‏ فمنه ما تواتر لفظه‏,‏ كالأمثلة السَّابقة‏,‏ ومنهُ ما تواتر معناهُ كأحاديث رفع اليدين في الدُّعاء‏,‏ فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مئة حديث فيه رفع يديه في الدُّعاء‏,‏ وقد جمعتها في جزء‏,‏ لكنَّها في قضايا مُختلفة‏,‏ فكل قضية منها لم تتواتر‏,‏ والقدر المُشْترك فيها‏,‏ وهو الرَّفع عند الدُّعاء تواتر باعتبار المَجْموع‏.‏

النَّوع الحَادي والثَّلاثون‏:‏ الغَريبُ والعَزيزُ

إذَا انفردَ عن الزُّهْري وشبههِ مِمَّن يجمعُ حديثه رَجلٌ بحديثٍ‏,‏ سُمِّي غريبًا‏,‏ فإن انفردَ اثْنَان‏,‏ أو ثلاثة‏,‏ سُمِّي عَزيزًا‏,‏ فإن رواهُ جَمَاعةٌ‏,‏ سُمي مَشْهورًا‏,‏ ويدخُل في الغَرِيب ما انفردَ راوٍ بِروَايته‏,‏ أو بِزَيادة في مَتْنهِ‏,‏ أو إسْنَاده‏.‏

النَّوع الحَادي والثَّلاثون‏:‏ الغريب والعزيز‏,‏ إذا انفرد عن الزُّهْري وشبهه مِمَّن يجمع حديثه من الأئمة‏,‏ كقتادة رجل بحديث‏,‏ سُمي غريبا‏.‏

فإن انفرد عنهم اثنان أو ثلاثة‏,‏ سُمِّي عزيزًا‏.‏

فإن رواه عنهم جماعة‏,‏ سُمِّي مشهورًا كذا قال ابن الصَّلاح أخْذًا من كلام ابن مَنْده‏.‏

وأمَّا شيخ الإسلام وغيره‏,‏ فإنَّهم خَصُّوا الثلاثة فما فوقها بالمشهور‏,‏ والاثنين بالعزيز لعزَّته – أي‏:‏ قوته- بمجيئه من طريق أُخرى‏,‏ أو لقلة وجُوده‏.‏

قال شَيْخ الإسلام‏:‏ وقد ادَّعى ابن حبَّان أنَّ رِوَاية اثنين عن اثنين‏,‏ لا تُوجد أصْلاً‏,‏ فإن أرادَ رِوَاية اثنين فقط فيسلم‏,‏ وأمَّا صُورة العزيز الَّتي جَوَّزها فموجودة بأن لا يَرْويه أقلَّ من اثنين‏,‏ عن أقل من اثنين‏.‏

مثاله ما رَوَاهُ الشَّيخان من حديث أنس والبُخَاري‏,‏ من حديث أبي هُريرة‏,‏ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يُؤمنُ أحدكُم حتَّى أكُون أحب إليه من والده وولده‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

رواه عن أنَس‏:‏ قَتَادة‏,‏ وعبد العزيز بن صُهيب‏,‏ ورواه عن قَتَادة‏:‏ شُعبة‏,‏ وسعيد‏,‏ ورواهُ عن عبد العزيز‏:‏ إسْمَاعيل بن عُلية‏,‏ وعبد الوارث‏,‏ ورَوَاه عن كلٍّ جماعة‏.‏

ويدخلُ في الغَريب ما انفردَ راوٍ بروايته فلم يَرْوهِ غيره كمَا تقدَّم مِثاله في قسم الأفراد أو بزيادة في متنه أو إسناده لم يذكرها غيره‏.‏

مثالهما‏:‏ حديث رواهُ الطَّبراني في «الكبير» من رِوَاية عبد العزيز بن مُحمَّد الدَّرَاوَرْدي‏,‏ ومن رِوَاية عبَّاد بن منصُور‏,‏ فرَّقهما‏,‏ كلاهما عن هِشَام بن عُروة‏,‏ عن أبيه‏,‏ عن عَائشة بحديث أمِّ زَرْع‏,‏ ففيه غَرَابة المَتن‏,‏ حيثُ جعلاه‏:‏ عن هِشَام بن عُروة‏,‏ عن أبيه‏,‏ عن عائشة‏.‏

والمحفُوظ ما رواهُ عيسى بن يُونس‏,‏ عن هِشَام‏,‏ عن أخيه عبد الله بن عُروة‏,‏ عن عروة‏,‏ عن عائشة‏,‏ هكذا أخرجه الشَّيخان‏.‏

وكذا رواه مُسلم أيضًا من رِوَاية سعيد بن سلمة بن أبي الحُسَام عن هِشَام‏.‏

ولا يَدْخلُ فيه أفْرادُ البُلْدان‏,‏ ويَنْقسمُ إلى صَحيحٍ وغَيْره‏,‏ وهو الغَالبُ‏,‏ وإلى غَريبٍ مَتنًا وإسْنَادًا‏,‏ كمَا لو انفردَ بِمَتنهِ واحدٌ‏,‏ وغَريب إسْنَادًا كحديثٍ رَوَى متنهُ جماعةٌ من الصَّحَابة‏,‏ انفردَ واحدٌ بروايتهِ عن صَحَابي آخَرَ‏,‏ وفيه يَقُولُ التِّرمذيُّ غريبٌ من هَذَا الوَجْه‏.‏

ولا يدخل فيه أفراد البُلدان الَّتي تقدَّمت في نوع الأفراد‏.‏

يَنْقسم أي‏:‏ الغَرِيب إلى صحيح كأفراد الصَّحيح و إلى غيره أي‏:‏ غير الصَّحيح وهو الغَالب على الغَرَائب‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ لا تكتبُوا هذه الأحاديث الغَرَائب‏,‏ فإنَّها مَنَاكير‏,‏ وعَامتها عن الضُّعفاء‏.‏

وقال مالك‏:‏ شرُّ العِلْم الغَرِيب‏,‏ وخير العلم الظَّاهر الَّذي قد رواه النَّاس‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ كُنَّا نرى أن غريب الحديث خير‏,‏ فإذا هو شر‏.‏

وقال ابن المُبَارك‏:‏ العلم الَّذي يجيئك من ههنا وههنا‏.‏ يعني المشهور‏,‏ رواها البَيْهقي في «المدخل»‏.‏

ورُوي عن الزُّهْري قال‏:‏ حدَّثتُ علي بن الحُسين بحديث‏,‏ فلمَّا فرغتُ قال‏:‏ أحسنت‏,‏ بارك الله فيك‏,‏ هكذا حُدِّثنا‏.‏ قلت‏:‏ ما أراني إلاَّ حدَّثتك بحديث أنتَ أعلم به مِنِّي‏,‏ قال‏:‏ لا تَقُل ذلك‏,‏ فليس من العلم ما لا يُعرف‏,‏ إنَّما العلم ما عُرف وتواطأت عليه الألْسُن‏.‏

ورَوَى ابن عَدِي عن أبي يُوسف قال‏:‏ من طلبَ الدِّين بالكلام تزندق‏,‏ ومن طلب غريب الحديث كَذَب‏,‏ ومن طلب المال بالكيمياء أفلس‏.‏

و ينقسم أيضًا إلى غريب متنًا وإسْنَادًا كما لو انفرد بمتنه راو واحد‏,‏ و إلى غريب إسْنادًا لا متنًا كحديث معروف روى متنه جماعة من الصَّحابة‏,‏ انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر‏,‏ وفيه يقول التِّرمذي‏:‏ غريب من هذا الوجه‏.‏

ومن أمثلته كما قال ابن سيد النَّاس‏:‏ حديث رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد‏,‏ عن مالك‏,‏ عن زيد بن أسْلم‏,‏ عن عطاء بن يَسَار‏,‏ عن أبي سعيد الخُدْري‏,‏ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الأعْمَالُ بالنيَّة»‏.‏

قال الخليلي في «الإرشاد»‏:‏ أخطأ فيه عبد المَجِيد‏,‏ وهو غير محفوظ عن زيد بن أسلم بوجه‏,‏ قال‏:‏ فهذا مِمَّا أخطأ فيه الثقة‏.‏

قال ابن سيد النَّاس‏:‏ هذا إسناد غريب كله‏,‏ والمتن صحيح‏.‏

ولا يُوجدُ غريبٌ متنًا لا إسْنَادًا‏,‏ إلاَّ إذا اشتهرَ الفردُ‏,‏ فَرَواهُ عن المُنْفردِ كثيرونَ‏,‏ صَارَ غَرِيبًا مَشْهورًا‏,‏ غَريبًا مَتْنًا لا إسْنَادًا بالنِّسبةِ إلى أحَدِ طَرَفيهِ‏,‏ كَحديث‏:‏ «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنيَّاتِ»‏.‏

ولا يوجد حديث غريب متنًا فقط لا إسنادًا‏,‏ إلاَّ إذا اشتهرَ الفردُ‏,‏ فرواه عن المُنفرد كثيرونَ‏,‏ صار غريبًا مَشْهورًا غريبًا متنًا لا إسنادًا‏,‏ بالنِّسبة إلى أحد طرفيه المشتهر وهو الأخير‏.‏

كحديث‏:‏ «إنَّما الأعمال بالنيات» كما تقدَّم تحقيقه‏,‏ وكسائر الغرائب المُشْتمله عليها التَّصانيف المُشتهرة‏.‏

وقال العِرَاقي‏:‏ وقد أطلقَ ابن سيِّد النَّاس ثُبوت هذا القِسْم‏,‏ من غير تَخْصيص له بما ذكر‏,‏ ولم يمثله فيحتمل أن يريد ما كان إسناده مَشْهورًا جادة لعدَّة من الأحاديث‏,‏ بأن يَكُونوا مَشْهورين بِرواية بعضهم عن بعض‏,‏ ويَكُون المتن غريبًا لانفرادهم به‏.‏

قال‏:‏ وقد وقعَ في كَلامهِ ما يَقْتضي تمثيله‏,‏ وذلكَ أنَّهُ لمَّا حكى قول ابن طاهر‏:‏ والخامس من الغرائب أسانيد ومُتون تفرَّد بها أهل بلد لا تُوجد إلاَّ من روايتهم‏,‏ وسنن يَنْفرد بالعمل بها أهل مصر‏,‏ لا يعمل بها في غير مصرهم‏.‏

قال‏:‏ وهذا النَّوع يَشْمل الغريب كله سندًا ومتنًا‏,‏ أو أحدهما دون الآخر‏.‏

قال‏:‏ وقد ذكر ابن أبي حاتم بسند له‏:‏ أنَّ رَجُلا سألَ مالكًا عن تخليل أصابع الرِّجْلين في الوضوء‏,‏ فقال له‏:‏ إن شئتَ خَلِّل‏,‏ وإن شئتَ لا تُخلِّل‏,‏ وكان عبد الله بن وهب حاضرًا‏,‏ فعجب من جواب مالك‏,‏ وذكر له في ذلك حديثا بسندٍ مِصْري صحيح‏,‏ وزعمَ أنَّه مَعْرُوف عندهم‏,‏ فاسْتعَادَ مالك الحديث‏,‏ واسْتعَادَ السَّائل‏,‏ فأمرَهُ بالتَّخليل‏.‏ انتهى‏.‏

قال‏:‏ والحديث المَذْكُور رواه أبو داود من رواية ابن لَهِيعة‏,‏ عن يزيد بن عَمرو المَعَافري‏,‏ عن أبي عبد الرَّحمن الحُبلي‏,‏ عن المُستورد بن شدَّاد‏.‏

قال التِّرمذي‏:‏ غريبٌ لا نعرفه إلاَّ من حديث ابن لَهِيعة‏.‏

ولم يَنْفرد به ابن لَهِيعة‏,‏ بل تابعهُ اللَّيث بن سعد وعَمرو بن الحارث‏.‏

كما رواه ابن أبي حاتم‏,‏ عن أحمد بن عبد الرَّحمن بن وهب‏,‏ عن عمِّه عبد الله بن وهب‏,‏ عن الثلاثة المذكورين‏.‏

وصحَّحهُ ابن القطَّان‏,‏ لتوثيقه لابن أخي ابن وهب‏.‏

فزالت الغرابة عن الإسناد‏,‏ بمتابعة اللَّيث وعَمرو لابن لَهِيعة‏,‏ والمتن غريب‏.‏

فائدة‏:‏

قد يكون الحديث أيضًا عزيزًا مشهورًا‏,‏ قال الحافظ العلائي فيما رأيته بخطَّه‏:‏ حديث «نحنُ الآخرونَ السَّابقونَ يوم القِيَامة‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏,‏ عزيزٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم رواه عنه حُذيفة بن اليَمَان‏,‏ وأبو هُريرة‏,‏ وهو مَشْهور عن أبي هُريرة‏,‏ رواه عنه سَبْعة‏:‏ أبو سلمة بن عبد الرَّحمن‏,‏ وأبو حازم‏,‏ وطاووس‏,‏ والأعرج‏,‏ وهمَّام‏,‏ وأبو صالح‏,‏ وعبد الرَّحمن مولى أم برثن‏.‏

النَّوع الثَّاني والثَّلاثُون‏:‏ غَريبُ الحَديثِ

هو مَا وقَعَ في مَتْن الحَديثِ من لَفْظةٍ غَامضةٍ‏,‏ بعيدةٍ من الفَهْم‏,‏ لقلَّة اسْتِعْمَالها‏,‏ وهو فَنٌّ مُهمٌّ‏,‏ والخَوضُ فيه صعبٌ‏,‏ فليتحرَّ خائضُهُ‏,‏ وكان السَّلف يَتَثبتونَ فيه أشدَّ تَثبُّت‏,‏ وقد أكثرَ العُلماء التَّصْنيف فيهِ‏,‏ قيل‏:‏ أوَّل من صنَّفهُ النَّضْر بن شُمَيل‏,‏ وقيلَ أبو عُبيدة مَعْمر‏,‏ وبعدهما أبو عُبيد‏,‏ فاسْتَقصَى وأجَادَ‏,‏ ثمَّ ابن قُتيبة ما فاتَ أبا عُبيد‏,‏ ثمَّ الخَطَّابي ما فاتهُمَا‏,‏ فهذه أُمَّهاته‏.‏

النَّوع الثَّاني والثَّلاثون‏:‏ غَريب ألفاظ الحديث

هو ما وقعَ في مَتْن الحديث من لَفْظة غامضة‏,‏ بعيدة من الفهم‏,‏ لقلة استعمالها‏,‏ وهو فنٌّ مُهم يقبح جهله بأهل الحديث والخوض فيه صعب حقيقٌ بالتَّحري‏,‏ جديرٌ بالتَّوقي فليتحرَّ خائضه وليتَّق الله أن يُقدم على تفسير كلام نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمُجرَّد الظُّنون وكان السَّلف يتثبتون فيه أشد تثبت‏.‏

فقد روينَا عن أحمد‏,‏ أنَّه سُئل عن حرف منهُ‏,‏ فقال‏:‏ سلُوا أصْحَاب الغَريب‏,‏ فإنِّي أكره أن أتكلَّم في قول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالظن‏.‏

وسُئل الأصْمَعي عن مَعْنى حديث‏:‏ «الجَار أحقُّ بِسَقْبهِ»‏.‏ فقال‏:‏ أنا لا أُفسِّر حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العرب تَزْعُم أنَّ السَّقب اللَّزيق‏.‏

وقد أكْثرَ العُلماء التَّصْنيف فيه‏,‏ قيلَ أوَّل من صَنَّفه النَّضر بن شُميل قاله الحاكم‏.‏

وقيلَ‏:‏ أبو عُبيدة مَعْمر بن المُثنى‏,‏ ثمَّ النضر‏,‏ ثمَّ الأصْمَعي‏,‏ وكتبهما صغيرة قليلة‏.‏

و ألَّف بعدهما أبو عُبيد القاسم بن سلاَّم كتابه المَشْهُور فاسْتقصَى وأجَادَ وذلك بعد المئتين‏.‏

ثمَّ تتبع أبو محمَّد عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدينوري ما فات أبا عُبيد في كِتَابه المَشْهُور‏.‏

ثمَّ تتبع أبو سُليمان الخَطَّابي ما فاتهما في كتابه المشهور‏,‏ ونبَّه على أغاليط لهما‏,‏ فهذه أُمهاته‏,‏ أي‏:‏ أُصوله‏.‏

ثمَّ بعدهَا كُتبٌ‏,‏ فيهَا زَوَائد وفَوائد كَثِيرة‏,‏ ولا يُقلد منها إلاَّ ما كان مُصنِّفُوها أئمةً أجِلَّة‏,‏ وأجْوَد تَفْسيره ما جَاء مُفسَّرًا في رِوَاية‏.‏

ثمَّ ألِّف بعدها كُتب كثيرة‏,‏ فيها زوائد وفوائد كثيرة‏,‏ ولا يقلد منها إلاَّ ما كان مُصنفوها أئمة أجلة «كمجمع الغرائب» لعبد الغافر الفارسي‏,‏ و«غريب الحديث» لقاسم السرقسطي‏,‏ و«الفائق» للزَّمخشري‏,‏ و«الغريبين» للهَرَوي‏,‏ وذيله للحافظ أبي مُوسى المَدِيني‏,‏ ثمَّ «النهاية» لابن الأثير‏,‏ وهي أحسن كُتب الغريب‏,‏ وأجمعها وأشهرها الآن‏,‏ وأكثرها تداولاً‏,‏ وقد فاته الكثير‏,‏ فذيَّل عليه الصَّفي الأرموي بذيل لم نقف عليه‏,‏ وقد شرعت في تلخيصها تلخيصًا حسنًا مع زيادات جمة‏,‏ والله أسأل الإعانة على إتمامها‏.‏

وأجود تفسيره ما جَاء مُفسرا به في رواية كحديث «الصَّحيحين» في قوله صلى الله عليه وسلم لابن صائد‏:‏ «خبَّأتُ لكَ خبيئًا‏,‏ فما هو‏؟‏» قال‏:‏ الدخ‏.‏

فالدخ ههنا الدخان‏,‏ وهو لغة فيه‏,‏ حكاه الجوهري وغيره‏,‏ لما روى أبو داود والتِّرمذي من رِوَاية الزُّهْري‏,‏ عن سالم‏,‏ عن ابن عُمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث‏,‏ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «إنِّي خَبَّأتُ لك خبأ»‏.‏ وخبأ له ‏{‏يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏‏.‏

قال المَدِيني‏:‏ والسرُّ في كونه خبأ له الدُّخَان أنَّ عيسى صلى الله عليه وسلم يقتله بجبل الدخان‏,‏ فهذا هو الصَّواب في تفسير الدخ هُنا‏.‏

وقد فسَّره غير واحد على غير ذلك فأخطؤوا‏,‏ فقيل‏:‏ الجماع‏,‏ وهو تخليط فاحش‏,‏ وقيلَ‏:‏ نبتٌ موجود في النَّخيل وهو غير مرضٍ‏.‏

النَّوع الثَّالث والثَّلاثُون‏:‏ المُسَلسلُ

هو ما تَتَابعَ رجَال إسْنَاده على صِفَةٍ أوْ حَالَةٍ‏,‏ للرُّواة تَارةً‏,‏ وللرِّوَاية تارةً أُخرى‏,‏ وصِفَاتُ الرُّواة‏,‏ إمَّا أقْوَال‏,‏ أو أفعال‏,‏ وأنْوَاع كثيرة غيرهما‏,‏ كَمُسلسل التَّشْبيك باليَدِ والعَدِّ فيهَا‏.‏

النَّوع الثَّالث والثَّلاثون‏:‏ المُسَلسل‏,‏ وهو ما تتابع رجال إسناده واحدًا فواحدًا على صفة واحدة أو حالة واحدة للرواة تارة‏,‏ وللرواية تارة أُخرى‏,‏ وصفات الرُّواة وأحوالهم أيضًا إمَّا أقوال أو أفعال أو هما معًا‏,‏ وصفات الرِّواية إمَّا أن تتعلق بصيغ الأداء‏,‏ أو بزمنها أو مكانها‏.‏

و له أنواع كثيرة غيرهما فالمُسلسل بأحوال الرُّواة الفعلية كَمُسلسل التَّشْبيك باليد وهو حديث أبي هُرَيرة‏:‏ شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «خَلقَ الله الأرْض يوم السَّبت‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ فقد تَسَلسل لنا تشبيك كل واحد من رُواته بيد من رواه عنه‏.‏

والعد فيها وهو حديث‏:‏ «اللهمَّ صلِّي على مُحمَّد‏.‏‏.‏‏.‏» إلى آخرهِ‏,‏ مُسَلسل بعد الكلمات الخمس في يد كل راو‏.‏

وكذلك المُسلسل بالمُصَافحة‏,‏ والأخذ باليد‏,‏ ووضع اليد على رأس الرَّاوى‏.‏

والمُسلسل بأحوالهم القولية‏,‏ كحديث مُعاذ بن جبل‏,‏ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «يا مُعاذ إنِّي أحبكَ فَقُل في دبر كلِّ صلاة‏:‏ اللهمَّ أعنِّي على ذِكْركَ وشُكْركَ وحُسْنِ عبادتكَ»‏.‏ تسلسل لنا بقول كل من رواته‏:‏ وأنا أحبكَ فقل‏.‏

والمُسلسل بهما معًا حديث أنس قال‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يجدُ العبد حَلاوة الإيمَان حتَّى يُؤمن بالقَدَرِ خَيْرهِ وشرِّه‏,‏ حُلوه ومُره»‏.‏ وقبضَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على لحيته وقال‏:‏ «آمنتُ بالقَدرِ خيره وشَرِّه‏,‏ حُلوه ومُرِّه»‏.‏ وكذا كل راو من رواته‏.‏

والمُسلسل بصفاتهم القولية‏,‏ كالمسلسل بقراءة سُورة الصفِّ ونحوه‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وصفات الرُّواة القولية‏,‏ وأحوالهم القولية مُتقاربة‏,‏ بل مُتماثلة‏.‏

وكاتِّفاقِ أسْمَاء الرُّواة‏,‏ أو صِفَاتهم‏,‏ أو نِسْبتهم‏,‏ كأحَاديثَ رويناهَا كلُّ رِجَالها دمَشْقيُّون‏,‏ وكَمُسلسل الفُقَهاء‏,‏ وصِفَات الرِّواية كالمُسَلسل بسمعتُ‏,‏ أو بأخْبَرنا‏,‏ أو أخبرنا فُلان والله‏.‏

و المُسلسل بصفاتهم الفعلية كاتِّفاق أسماء الرُّواة كالمُسلسل بالمُحمدين أو صفاتهم‏,‏ أو نسبتهم‏.‏

فالثَّاني‏:‏ كأحاديث رويناها كل رجالها دمشقيون أو مِصْريون‏,‏ أو كُوفيون‏,‏ أو عراقيون‏.‏

و الأوَّل كمُسلسل الفُقهاء مُطلقًا‏,‏ أو الشَّافعيين‏,‏ أو الحُفَّاظ‏,‏ أو النُّحَاة‏,‏ أو الكُتَّاب‏,‏ أو الشُّعراء‏,‏ أو المُعمِّرين‏.‏

وصفات الرِّواية المتعلقة بصيغ الأداء كالمسلسل بسمعت فلانا أو أخبرنا فُلان‏,‏ أو أخبرنا فُلان والله أو أشهد بالله لسمعت فُلان‏,‏ يقول ذلك كل راو منهم‏.‏

والمُتعلِّقة بالزَّمان كالمُسَلسل بروايته يوم العيد‏,‏ وقَص الأظْفَار يوم الخميس ونحو ذلك‏.‏

وبالمَكَان‏,‏ كالمُسلسل بإجَابة الدُّعاء في الملتزم‏.‏

وقد جمعتُ كتابًا فيما وقع في سَمَاعاتي من المُسَلسلات بأسانيدها‏,‏ وجمع النَّاس في ذلك كثيرًا‏.‏

وأفْضلهُ ما دلَّ على الاتِّصالِ‏,‏ ومن فوائدهِ زِيادةُ الضَّبط‏,‏ وقَلَّما يَسْلم عَنْ خَللٍ في التَّسلسُل‏,‏ وقد يَنْقطعُ تَسَلسلهِ في وَسَطهِ‏,‏ كَمُسلسلِ أوَّل حَديثٍ سمعتهُ على ما هُوَ الصَّحيح فيه‏.‏

وأفضله ما دلَّ على الاتِّصال في السَّماع وعدم التدليس‏.‏

ومن فوائده اشْتمَاله على زيادة الضَّبط من الرُّواة‏.‏

وقلَّما يسلم عن خلل في التسلسل وقد ينقطع تسلسله في وسطه أو أوله‏,‏ أو آخره كمسلسل أوَّل حديث سمعته وهو حديث عبد الله بن عَمرو‏:‏ «الرَّاحمُون يَرْحمهم الرَّحمن‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

فإنَّه انْتَهَى فيه التَّسلسل إلى سُفيان بن عُيينة‏,‏ وانقطع في سماع سُفيان من عَمرو بن دينار‏,‏ وانقطع في سَمَاع عَمرو من أبي قَابُوس‏,‏ وفي سَمَاع أبي قابُوس من عبد الله بن عَمرو‏,‏ وفي سماع عبد الله من النَّبي صلى الله عليه وسلم عَلَى ما هو الصَّحيح فيه‏.‏

وقد رواهُ بعضهم كامل السلسلة‏,‏ فوهم فيه‏.‏

فائدة‏:‏

قال شيخُ الإسلام‏:‏ من أصلح مسلسل يُروى في الدُّنيا‏:‏ المُسلسل بقراءة سُورة الصف‏.‏

قلت‏:‏ والمُسلسل بالحُفَّاظ والفُقهاء أيضًا‏,‏ بل ذكر في «شَرْح النُّخبة» أن المُسلسل بالحُفَّاظ مِمَّا يُفيد العلم القَطْعي‏.‏

النَّوع الرَّابع والثَّلاثون‏:‏ نَاسخَ الحَديثِ ومَنْسُوخه

هو فَنٌّ مُهمٌّ صعبٌ‏,‏ وكانَ للشَّافعيِّ فيه يدٌ طُولى‏,‏ وسَابقةٌ أُولى‏,‏ وأدْخلَ فيه بعضُ أهل الحَديثِ ما ليسَ مِنْهُ‏,‏ لخَفَاء مَعْناهُ‏,‏ والمُخْتار أنَّ النَّسخ رَفْعُ الشَّارع حُكمًا منهُ‏,‏ مُتقدِّمًا بحكم منهُ مُتأخِّر‏.‏

النَّوع الرَّابع والثلاثون‏:‏ ناسخ الحديث ومنسوخه

وهو فنُّ مُهم فقد مرَّ على عليٍّ قاص‏,‏ فقال‏:‏ تعرف النَّاسخ من المنسوخ‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏,‏ فقال هلكتَ وأهلكتَ‏.‏ أسنده الحازمي في كتابه‏,‏ وأسند نحوه عن ابن عبَّاس‏.‏

وأسند عن حُذيفة‏,‏ أنَّه سُئل عن شيء فقال‏:‏ إنَّما يُفتي من عرف النَّاسخ والمَنْسُوخ‏.‏ قالوا‏:‏ ومن يعرف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ عُمر‏.‏

صعبٌ فقد روينا عن الزُّهْري قال‏:‏ أعيا الفُقهاء وأعْجَزهُم أن يعرفوا ناسخ الحديث ومنسوخه‏.‏

وكان للشَّافعي فيه يدٌ طُولى‏,‏ وسابقة أولى فقد قال الإمام أحمد لابن وارة‏,‏ وقد قدم من مصر‏:‏ كتبتَ كُتب الشَّافعي‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فرَّطت‏,‏ ما علمنا المُجْمل من المُفسَّر‏,‏ ولا ناسخ الحديث من منسوخه‏,‏ حتَّى جالسنا الشَّافعي‏.‏

وأدخل فيه بعض أهل الحديث مِمَّن صنَّف فيه ما ليسَ منهُ‏,‏ لخفاء معناه أي‏:‏ النَّسخ وشرطه‏.‏

والمُختار في حدِّه أنَّ النَّسخ رفع الشَّارع حُكمًا منه متقدمًا‏,‏ بحكم منه متأخِّر‏.‏

فالمُراد برفع الحُكم قطع تعلقه عن المُكلَّفين‏,‏ واحترزَ به عن بيان المُجْمل‏,‏ وبإضافته للشارع عن إخبار بعض من شاهد النَّسخ من الصَّحابة‏,‏ فإنَّه لا يَكُون نسخًا‏,‏ وإن لم يحصل التَّكليف به لمن لم يبلغه قبل ذلك إلاَّ بإخباره‏.‏

وبالحكم عن رفع الإبَاحة الأصلية‏,‏ فإنَّه لا يُسمَّى نسخًا‏.‏

وبالتقدُّم عن التَّخصيص المُتَّصل بالتكليف‏,‏ كالاستثناء ونحوه‏.‏

وبقولنا‏:‏ بحكم منه مُتأخِّر‏,‏ عن رفع الحكم بموت المُكلَّف‏,‏ أو زَوَال تكليفه بجنُون ونحوه‏,‏ وعن انتهائه بانتهاء الوقت‏.‏

كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّكُم مُلاقوا العدو غدًا‏,‏ والفِطْر أقْوَى لكُم فأفْطِرُوا»‏.‏ فالصَّوم بعد ذلك اليوم ليس نسخًا‏.‏

فمنهُ ما عُرف بِتَصْريح رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كـ‏:‏ «كُنتُ نهيتكُم عن زِيَارة القُبُور فَزُورها»‏.‏ ومنهُ ما عُرِفَ بقول الصَّحَابي كـ‏:‏ كانَ آخرُ الأمْرينِ مِنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الوضُوء مِمَّا مسَّت النَّار‏,‏ ومنهُ مَا عُرِفَ بالتاريخ‏.‏

فمنه ما عرف النسخ فيه بتصريح رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كـ‏:‏ «كنتُ نهيتكُم عن زِيَارة القُبور فزُوروها وكنتُ نهيتكُم عن لُحوم الأضَاحي فوق ثَلاثٍ‏,‏ فكلوا ما بَدَا لكُم‏,‏ وكنتُ نهيتكُم عن الظروف‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث أخرجه مسلم عن بُريدة‏.‏

ومنهُ ما عُرف بقول الصَّحابي‏,‏ كـ‏:‏ كانَ آخرُ الأمرين من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضُوء مِمَّا مسَّت النَّار رواه أبو داود والنَّسائي عن جابر‏.‏

وكقول أُبي بن كعب‏:‏ كانَ المَاءُ من المَاء رُخْصة في أوَّل الإسْلام‏,‏ ثمَّ أُمرَ بالغُسْل‏.‏ رواه أبو داود والتِّرمذي وصحَّحه‏.‏

وشرط أهل الأصُول في ذلك أن يُخبر بتأخُّره‏,‏ فإن قال‏:‏ هذا ناسخ‏,‏ لم يثبت به النَّسخ‏,‏ لجَوَاز أن يقوله عن اجتهاد‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وإطلاق أهل الحديث أوضح وأشهر‏,‏ لأنَّ النَّسخ لا يُصَار إليه بالاجْتهاد‏,‏ والرَّأي إنَّما يُصَار إليه عندَ مَعْرفة التَّاريخ‏,‏ والصَّحَابة أوْرَع من أن يحكم أحد منهم على حُكم شرعي بنسخ‏,‏ من غير أن يعرف تأخُّر الناسخ عنه‏,‏ وقد أطلق الشَّافعي ذلك أيضًا‏.‏

ومنه ما عرف بالتاريخ كحديث شدَّاد بن أوْس مرفوعًا‏:‏ «أفطرَ الحَاجمُ والمَحْجُوم» رواه أبو داود والنَّسائي‏.‏

ذكر الشَّافعي أنَّه مَنْسُوخ بحديث ابن عبَّاس‏:‏ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احتجمَ وهو مُحْرم صائم‏.‏ أخرجه مسلم‏,‏ فإنَّ ابن عبَّاس إنَّما صحبهُ مُحرمًا في حجَّة الوداع سَنَة عَشْر‏,‏ وفي بعض طُرق حديث شدَّاد أنَّ ذلك كان زمن الفَتْح سَنَة ثمان‏.‏

ومنهُ مَا عُرف بدلالة الإجْمَاع‏,‏ كحديثِ قَتْل شَاربِ الخَمْر في الرَّابعة‏,‏ والإجْمَاع لا يُنْسخ ولا يَنْسخ‏,‏ لكن يدلُّ على نَاسخٍ‏.‏

ومنهُ ما عُرف بدلالة الإجماع‏,‏ كحديث قتل شَاربِ الخمر في الرَّابعة وهو ما رَواه أبو داود والتِّرمذي من حديث مُعَاوية‏:‏ «مَنْ شَرِبَ الخَمْر فاجلدُوه‏,‏ فإن عَادَ في الرَّابعة فاقتلُوه‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

قال المُصنِّف في «شرح مسلم»‏:‏ دلَّ الإجْمَاع على نَسْخه‏.‏

وإن كانَ ابن حَزْم خالف في ذلكَ‏,‏ فخلاف الظَّاهرية لا يَقْدح في الإجْمَاع‏.‏

نعم وردَ نَسْخه في السُّنة أيضًا‏,‏ كما قال التِّرمذي من رِوَاية مُحمَّد بن إسْحَاق‏,‏ عن مُحمَّد بن المُنْكدر‏,‏ عن جابر‏,‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنْ شَربَ الخَمْر فاجْلدُوه‏,‏ فإن شربَ في الرَّابعة فاقتلُوه»‏.‏ ثمَّ أُتي النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجُل قد شرب في الرَّابعة فضربهُ ولم يقتله‏.‏

قال‏:‏ وكذلكَ رَوَى الزُّهْري عن قَبِيصة بن ذُؤيب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا‏.‏

قال‏:‏ فرفع القَتْل وكانت رُخْصة‏.‏ انتهى‏.‏

وما علَّقهُ التِّرمذي أسندهُ البَزَّار في «مسنده»‏.‏

وقَبيصة ذكرهُ ابن عبد البر في الصَّحابة‏,‏ وقال‏:‏ ولد أوَّل سَنَة من الهِجْرة‏,‏ وقيلَ‏:‏ عام الفَتْح‏.‏

فالمِثَالُ الصَّحيح لذلك‏,‏ ما رواه التِّرمذي من حديث جابر قال‏:‏ حَجَجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فكُنَّا نُلبي عن النِّساء‏,‏ ونَرْمي عن الصِّبْيان‏.‏

قال التِّرمذي‏:‏ أجمعَ أهل العلم‏:‏ أنَّ المَرْأة لا يُلبي عنها غيرها‏.‏

ثمَّ الحديث لا يُحكم عليه بالنَّسْخ بالإجماع على ترك العمل به‏,‏ إلاَّ إذا عرف صحَّته‏,‏ وإلاَّ فيحتمل أنَّه غلط‏,‏ صرَّح به الصَّيرفي‏.‏

والإجماع لا يُنسخ أي‏:‏ لا ينسخه شيء ولا يَنْسخ هو غيره ولكن يدل على ناسخ أي‏:‏ على وجود ناسخ غيره‏.‏